تلعب الشركات العائلية دورًا محوريًا في الاقتصاد السعودي، حيث تشكل نسبة كبيرة من قطاع الأعمال وتساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني وتوفير فرص
العمل. ومع ذلك، تواجه هذه الشركات تحديًا استراتيجيًا يتجسد في أزمة الهوية المؤسسية، حيث تجد نفسها عالقة بين التمسك بالأصالة التي بُنيت
عليها عبر الأجيال، وبين الحاجة الملحة للتحديث ومواكبة المتغيرات السريعة في السوق.
من منظور استشاري، يعد هذا التحدي فرصة لإعادة تشكيل الهوية المؤسسية للشركات العائلية بطريقة تضمن الحفاظ على قيمها التاريخية، مع تبني
ممارسات حديثة تجعلها أكثر استدامة وقدرة على المنافسة في المستقبل.
الهوية المؤسسية في الشركات العائلية: بين الإرث والتطور
الهوية المؤسسية ليست مجرد شعار أو وثيقة، بل هي الروح التي تنعكس في ثقافة الشركة، قيمها، وأسلوبها في إدارة الأعمال. بالنسبة للشركات العائلية، ترتبط الهوية المؤسسية بشكل وثيق بإرث العائلة وقيمها التي تناقلتها عبر الأجيال.
لكن في بيئة أعمال متغيرة تتطلب مرونة وسرعة في التكيف، قد تصبح الهوية القائمة على التقليد عائقًا أمام التوسع والنمو. التحدي يكمن في كيفية تطوير هذه الهوية لتظل وفية للأصول العائلية، مع دمج عناصر التحديث والابتكار لتعزيز قدرة الشركة على التنافس في الأسواق الحديثة.
أزمة الهوية المؤسسية: مظاهر وأسباب
تتجلى أزمة الهوية المؤسسية في الشركات العائلية من خلال عدة مظاهر:
- تمسك بالأساليب التقليدية: تعتمد العديد من الشركات العائلية على أساليب إدارة تقليدية قد لا تتماشى مع متطلبات السوق الحديث، ما يؤدي إلى تراجع الكفاءة والإنتاجية.
- غياب التخطيط المؤسسي: غالبًا ما تُدار الشركات العائلية بناءً على العلاقات الشخصية والقرارات العائلية، بدلًا من التخطيط المؤسسي المبني على البيانات والتحليل.
- مقاومة التغيير: يواجه الجيل الجديد من المديرين العائليين صعوبة في إقناع الجيل السابق بضرورة التغيير وتبني ممارسات حديثة.
أسباب هذه الأزمة تعود إلى تمسك الأجيال السابقة بالقيم التقليدية، إضافة إلى الخوف من أن يؤدي التحديث إلى فقدان الهوية التي ميّزت الشركة لسنوات طويلة.
المسؤولية الاجتماعية كجسر بين الأصالة والتحديث
تُعد المسؤولية الاجتماعية عنصرًا محوريًا يمكن للشركات العائلية الاعتماد عليه لتحقيق التوازن بين الأصالة والتحديث.
- المحافظة على القيم العائلية: من خلال تبني مبادرات مسؤولية اجتماعية تُعزز القيم التي قامت عليها الشركة، مثل دعم المجتمع المحلي، والتعليم، وريادة الأعمال.
- مواكبة التحديث: المسؤولية الاجتماعية لم تعد مقتصرة على العمل الخيري، بل تشمل استراتيجيات مستدامة في إدارة البيئة، تطوير الموظفين، وتمكين الشباب، وهي عناصر تواكب تطلعات الأجيال الجديدة.
- تعزيز السمعة المؤسسية: المبادرات الاجتماعية الناجحة تعزز سمعة الشركات العائلية وتجعلها أكثر قربًا من المجتمع والعملاء، ما يساهم في ترسيخ هويتها بطريقة عصرية.
منظور استشاري: حلول عملية لإعادة تشكيل الهوية المؤسسية
بناءً على الخبرة الاستشارية في التعامل مع الشركات العائلية، يمكن اقتراح عدد من الحلول التي تساعد في تجاوز أزمة الهوية المؤسسية:
- إعادة صياغة القيم المؤسسية
يجب على الشركات العائلية إعادة صياغة قيمها المؤسسية بطريقة تدمج بين القيم التقليدية والاحتياجات الحديثة. هذا يشمل تحديد رؤية مستقبلية واضحة ترتكز على الابتكار والاستدامة، مع الحفاظ على القيم العائلية الأساسية. - تطبيق الحوكمة المؤسسية
تعد الحوكمة المؤسسية أداة مهمة لتقليل تأثير العوامل العائلية في اتخاذ القرارات. من خلال تشكيل مجالس إدارة مستقلة وإدخال مديرين محترفين من خارج العائلة، يمكن للشركات تحقيق توازن بين الإدارة العائلية والتوجهات المؤسسية الحديثة. - تطوير استراتيجية المسؤولية الاجتماعية
ينبغي على الشركات العائلية تبني استراتيجية واضحة للمسؤولية الاجتماعية تكون جزءًا من هويتها المؤسسية. هذه الاستراتيجية يجب أن تكون مبنية على احتياجات المجتمع المحلي، وتساهم في تعزيز التفاعل الإيجابي مع البيئة المحيطة. - تمكين الجيل الجديد
الجيل الجديد من أفراد العائلة يمكن أن يكون مفتاح التحول. يجب على الشركات العائلية تمكينهم من خلال برامج تدريبية، ومنحهم الفرصة للمشاركة في صياغة الهوية المؤسسية الجديدة، بما يضمن استمرارية الشركة في المستقبل.
أهمية التوازن بين الأصالة والتحديث
التحديث لا يعني التخلي عن القيم العائلية التي شكلت أساس الشركات العائلية. على العكس، التحديث هو وسيلة لتعزيز هذه القيم وتطويرها لتتناسب مع العصر الحديث. التوازن بين الأصالة والتحديث يضمن استمرار الشركات العائلية على المدى الطويل، ويعزز قدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
طريق النجاح يبدأ بإعادة تعريف الهوية
أزمة الهوية المؤسسية في الشركات العائلية ليست عائقًا، بل فرصة لإعادة التفكير في طريقة إدارة الأعمال. من خلال تبني نهج استشاري يرتكز على الحوكمة، والمسؤولية الاجتماعية، وتمكين الأجيال الجديدة، يمكن للشركات العائلية تحقيق التوازن بين الحفاظ على إرثها العائلي وتبني الابتكار والتحديث اللازمين لضمان استدامتها في المستقبل.
في النهاية، الشركات العائلية التي تنجح في حل أزمة الهوية المؤسسية ستتمكن من بناء علامة تجارية قوية تجمع بين التراث العريق والرؤية المستقبلية، مما يجعلها قادرة على المنافسة في السوق المتغير والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة في المملكة العربية السعودية.