خرافة الازدحام يساوي أرباحًا

من المشاهد التي تُبهج أصحاب المتاجر ومسؤولي التسويق ظاهريًا، هي تلك الطوابير الطويلة والازدحام داخل المحلات. إذ يُفترض أن كثرة الزوّار تعني بالضرورة زيادة في المبيعات والأرباح. لكن هذه المعادلة الظاهرية، التي ترسخت مع الزمن في ثقافة البيع بالتجزئة، ليست دقيقة دائمًا.

بل على العكس، تُظهر تجارب الاستشارات الإدارية أن الازدحام قد يكون مؤشراً على مشكلات تشغيلية، لا على نجاح تجاري، وأن تحقيق الربح لا يرتبط بعدد الزوار فقط، بل بجودة التجربة، وكفاءة التفاعل، ومعدل التحويل من زائر إلى مشترٍ.

 

أولًا: من أين جاءت هذه الخرافة؟

ترتبط الفرضية أساسًا بمفاهيم سلوكية واجتماعية:

  • الازدحام يخلق انطباعًا بالطلب العالي، ما يولد رغبة تقليدية في التقليد والشراء.
  • العدد الكبير يُفهم – تسويقيًا – كدليل على جودة المنتج أو شعبية الخدمة.

لكن من منظور اقتصادي وإداري دقيق، لا يمكن الخلط بين الضجيج والعائد، ولا بين كثافة الزيارة وجودة الإيراد.

 

ثانيًا: أين تكمن الخسائر الخفية؟

  1. ضعف التحويل (Low Conversion)

قد يزورك المئات، لكن لا يشتري منهم إلا القليل. ومع الازدحام، تقل احتمالية حصول العميل على تجربة استشارية جيدة، ما يؤدي إلى مغادرته دون شراء.

  1. تجربة عميل سلبية

الازدحام الزائد يخلق بيئة ضغط، ويقلل من شعور الراحة لدى الزبائن، ما يضر بالولاء ويجعلهم أقل رغبة في العودة.

  1. نقص الكفاءة التشغيلية

الضغط الزائد على الموظفين، وتأخر الطلبات، ونقص في الخدمة الشخصية، قد يؤثر مباشرة على سمعة العلامة التجارية.

  1. تآكل الهامش الربحي

في بعض الأحيان، يكون الازدحام نتيجة لعروض ترويجية غير مستدامة تؤدي إلى زيادة الزوار لكن بهوامش ربح متدنية، ما يؤدي إلى إجهاد البنية التشغيلية دون عائد حقيقي.

 

ثالثًا: كيف تقرأ الاستشارات الإدارية هذه الظاهرة؟

المستشارون الإداريون لا ينخدعون بالأرقام السطحية. في تحليل أداء المتاجر أو المشاريع التجارية، نستخدم مؤشرات مثل:

  • معدل التحويل (Conversion Rate): نسبة الزوار الذين قاموا بعملية شراء فعلية.
  • قيمة المشتريات لكل زبون (Average Basket Size).
  • نسبة العائدين مقابل الزوار الجدد.
  • الزمن المستغرق في المحل مقابل رضا العميل.

وبذلك، يصبح الازدحام مجرد مؤشر خام، لا قيمة له دون فهم عميق لما يحدث فعليًا في التفاعل بين العميل والعلامة التجارية.

 

رابعًا: كيف نحوّل الازدحام إلى ربح فعلي؟

  1. إدارة الطاقة الاستيعابية بذكاء

ليس الهدف هو فتح الأبواب للجميع في كل وقت، بل تنظيم التدفق لضمان تقديم خدمة ذات جودة عالية.

  1. تدريب الموظفين على إدارة الزخم

الفرق المدربة تستطيع تحويل لحظات الزحام إلى فرص بيع ذكية، من خلال التواصل الفعال وتوجيه العميل بسرعة واحترافية.

  1. تبني التحول الرقمي في تجربة المتجر

الحجوزات المسبقة، الدفع السريع، الشاشات التفاعلية، وأنظمة إدارة الطوابير تتيح للمتجر تقليل الزحام دون خسارة الزبائن.

  1. تحسين تصميم المتجر وتجربة الحركة

حتى في ظل كثافة عالية، يمكن للهندسة الذكية للمساحة أن تخلق انسيابية وتقلل الاحتكاك والانتظار، مما يزيد من راحة العميل.

 

خامسًا: هل “الازدحام” دائمًا سلبي؟

ليس بالضرورة. في بعض الحالات (مثل افتتاح جديد، أو عروض نادرة)، يكون الازدحام أداة تسويقية قوية، بشرط:

  • أن يتم استيعابه بخطط تشغيل مرنة.
  • أن يُستخدم كرافعة لبناء قاعدة عملاء مستدامة، لا مجرد حدث لحظي.
  • أن يكون ناتجًا عن رغبة حقيقية في المنتج، لا خدعة بصرية مؤقتة.

 

في الختام نقول ليست كل الطوابير ذهبًا

في عالم يتجه نحو السرعة، التخصيص، وراحة العميل، لم تعد كثرة الزوار هدفًا في حد ذاته.
القيمة الحقيقية تكمن في جودة التجربة، وذكاء الإدارة، ومدى تحويل كل زائر إلى عميل راضٍ ومخلص.

الاستشارات الإدارية الحديثة لا تكتفي بقياس حجم الحشود، بل تسأل دومًا:

ماذا أضاف هذا الازدحام لقيمة العلامة؟
وما الذي جنته المؤسسة من هذا الحراك؟

فالربح لا يُقاس بعدد الأقدام على الأرض، بل بما تركته من أثر في القلوب والعقول والموازنات.