الضغط النفسي في العمل المؤسسي: كيف تحمي فريقك من الاحتراق؟

 

في بيئات العمل الحديثة، لم يعد التحدي الأكبر هو تنفيذ المهام، بل الاستمرار في الأداء تحت ضغط متصاعد دون أن يُستنزف الإنسان داخليًا. فمع تسارع التغيرات، وتزايد المتطلبات، وتراكم الأهداف، أصبح الضغط النفسي جزءًا من المشهد اليومي في المؤسسات. وإذا لم تتم معالجته بوعي واحترافية، فقد يتحوّل إلى احتراق وظيفي يقوّض الإنتاجية ويهدد الاستقرار التنظيمي.

من واقع خبرة الاستشارات الإدارية، لا يكفي التعامل مع الضغط كظاهرة شخصية أو ظرفية، بل ينبغي اعتباره مؤشرًا مؤسسيًا يستوجب تدخلًا منهجيًا. فالموظف المحترق لا يخسر فقط شغفه، بل يُفقد المنظمة قوتها الناعمة وروحها التنافسية.

 

أولًا: ما هو الاحتراق الوظيفي ولماذا يحدث؟

الاحتراق الوظيفي هو حالة من الإجهاد العقلي والعاطفي والجسدي ناتجة عن ضغوط مزمنة في العمل، تتمثل أعراضه في:

الإرهاق الدائم حتى مع المهام البسيطة.

فقدان الحماس وانخفاض المبادرة.

التبلد أو السلبية تجاه الزملاء أو المؤسسة.

ضعف التركيز، وزيادة الأخطاء، وغياب الإبداع.

غالبًا لا يحدث الاحتراق فجأة، بل يتراكم على مراحل، تبدأ من إهمال المؤشرات الخفية: صمت الموظف، تراجع مشاركته، تغيّبه المتكرر، أو حتى إصراره على “العمل الزائد” كتعويض نفسي.

 

ثانيًا: المؤشرات التي تستدعي التدخل العاجل

من منظور الاستشارات الإدارية، هناك إشارات واضحة تدل على أن الفريق يقترب من حدوده النفسية:

انخفاض جودة التواصل بين الأقسام أو داخل الفرق.

تكرار الشكاوى غير المباشرة (مثل التذمر من المهام أو الاجتماعات)

الزيادة المفاجئة في الإجازات المرضية أو الاستقالات.

الجمود في الأفكار والمبادرات.

تحول الاجتماعات إلى واجب ثقيل بدل كونها مساحة تفاعل.

هذه العلامات يجب أن تُقرأ كمؤشرات حرارة في لوحة القيادة، لا كحوادث عرضية.

 

ثالثًا: كيف تحمي فريقك من الاحتراق؟

اصنع بيئة نفسية آمنة

الموظف المحبط لا يحتاج وعظًا، بل أن يشعر أنه مرئي ومسموع وآمن.

اعمل على:

تقبل الحديث عن الضغط كحالة مشروعة، لا كضعف.

تدريب القادة على الاستماع الفعّال والتعاطف المهني.

بناء ثقافة دعم لا لوم.

أعد تصميم عبء العمل

ليست كل الضغوط ناتجة عن كمية العمل فقط، بل من سوء التوزيع أو غموض التوقعات.

ومن أدوات الاستشارات الإدارية الناجحة:

توزيع المهام بناء على نقاط القوة لا التكرار.

مراجعة الأدوار لتقليل التداخل أو العبء الخفي.

منح الفريق صلاحيات توازن بين المسؤولية والمرونة.

فعّل المرونة الذكية في أنظمة العمل

المرونة لا تعني الفوضى، بل تعني منح الفريق أدوات للتنفس وسط الزحام، مثل:

ساعات عمل مرنة في فترات الذروة.

العمل عن بعد عند الحاجة دون تعقيدات.

فترات توقف قصيرة مدمجة داخل اليوم دون الشعور بالذنب.

اعتمد آليات الوقاية لا المسكنات

لا تنتظر الشكوى، بل:

نفذ استطلاعات دورية لقياس ضغط العمل.

استخدم أدوات تحليل ثقافة العمل لتحديد بؤر الضغط.

خصص جلسات تطوير نفسي ومهني كجزء من باقة الموارد، لا كحل طارئ.

قدّم نموذجًا صحيًا في القيادة

القائد المنهك لا يمكنه أن يحمي فريقه من الإرهاق.

احرص على أن تكون القيادة:

واقعية في التوقعات.

واضحة في التوجيه.

مشجعة على التوازن، لا الاحتراق باسم الإنجاز.

 

رابعًا: دور الاستشارات الإدارية في علاج الضغط المؤسسي

الاستشارات الإدارية لا تقتصر على تحسين المؤشرات المالية، بل تشمل صحة المنظومة من الداخل. وتشمل خدماتها في هذا السياق:

تحليل ثقافة العمل وتحديد بؤر التوتر.

تصميم برامج تدخل نفسي ومهني مستدامة.

تدريب القادة على دعم فرقهم بذكاء وجدوى.

بناء نظام إنذار مبكر للإرهاق التنظيمي.

فالحلول المؤسسية للاحتراق ليست عاطفية، بل منهجية ومدروسة.

 

راقب الشعلة قبل أن تنطفئ

المنظمات لا تنهار من الخارج فقط، بل من الداخل بصمت.

والضغط النفسي إن تُرك دون معالجة، لا يُطفئ فقط الحماس، بل يعصف بالقيم والابتكار والانتماء.

احمِ فريقك لا بالشعارات، بل بأنظمة عمل ذكية، وقيادة راشدة، واستشارات تدرك أن الإنسان هو رأس المال الحقيقي، وأن المؤسسة القوية هي التي تعرف متى تخفف الضغط لتزيد الإنتاج، لا العكس.

فالوقاية ليست رفاهية في بيئة العمل الحديثة، بل شرط بقاء.