لماذا نحتاج إلى تعليم الإدارة بواقعية لرواد الأعمال الناشئين؟

في عصر يفيض بالحماس الريادي والمبادرات الشبابية، يبرز سؤال جوهري: لماذا تفشل نسبة كبيرة من المشاريع الناشئة خلال السنوات الثلاث الأولى؟

الإجابة في كثير من الأحيان لا تتعلق بفكرة المشروع أو جدواه، بل ترتبط بنقطة خفية لكنها حاسمة: فجوة الوعي الإداري.

من واقع خبرة الاستشارات الإدارية، فإن عدداً من رواد الأعمال يدخلون السوق بروح المغامرة، لكنهم يفتقرون إلى أدوات الإدارة الواقعية. يتقنون بناء النموذج الأولي، ويبدعون في تسويق الفكرة، لكنهم يتعثرون عند أول أزمة في التدفقات النقدية، أو عند التعامل مع فرق العمل، أو عند مواجهة تحديات النمو السريع.

النتيجة؟ مشروع واعد يسقط بسبب غياب فهم عميق لما تعنيه الإدارة فعلاً… لا كما تُعرض في كتب التحفيز، بل كما تُمارس على الأرض.

 

أولاً: كيف يظهر غياب “الإدارة الواقعية” لدى الرواد؟

رواد الأعمال الناشئون غالبًا ما يقعون في ثلاث مغالطات إدارية متكررة:

المبالغة في التفويض أو الاحتكار الكامل للقرار

فيغيب التوازن بين التحكم والثقة، مما يؤدي إما إلى فوضى تشغيلية، أو إلى مركزية تخنق النمو.

الخلط بين الإنفاق والنمو

حيث يُنفق على أدوات أو واجهات مبهرجة قبل استقرار العائدات الأساسية، فيُستهلك رأس المال بسرعة دون نتائج مستدامة.

تجاهل بناء الثقافة والتنظيم الداخلي

التركيز على المنتج يتجاوز بناء الفريق، وتغيب البنية التشغيلية التي تحفظ الاستمرارية عند غياب المؤسس أو توسع الفريق.

هذه السلوكيات ليست نتيجة لضعف في الذكاء، بل لنقص في التعليم الإداري التطبيقي المرتبط بالواقع.

 

ثانيًا: ما المقصود بـ “تعليم الإدارة بواقعية”؟

ليس المقصود تقديم كتب نظرية عن التخطيط والتنظيم والرقابة، بل إعادة صياغة المعرفة الإدارية لتلائم عقل رائد الأعمال العملي والمشغول والمتحمس.

يتضمن ذلك:

نقل المفاهيم من التنظير إلى التمرين: مثل محاكاة مواقف حقيقية تواجه المشروع.

ربط الأرقام بالقرارات: كيف تبني ميزانية تشغيل واقعية؟ كيف تقرأ مؤشرات الأداء؟

تعليم مهارات اتخاذ القرار تحت الضغط: لأن القرارات في المشاريع الصغيرة غالبًا ما تكون فورية ومحفوفة بالمخاطرة.

فهم دورة حياة المشروع إدارياً: لا يكفي أن تُطلق المشروع، بل كيف تديره عند النمو أو التراجع أو الاستحواذ؟

 

ثالثًا: دور الاستشارات الإدارية في سد هذه الفجوة

الاستشارات الإدارية الفعالة لا تأتي لتعلّم الرائد كيف يدير شركته من الكتب، بل تعمل كـ شريك تفكير يمشي معه في الميدان. وتشمل أدوارها:

إعادة تصميم هيكل العمل المناسب لحجم المشروع.

بناء أدوات مرنة للرقابة والتحسين دون تعقيد بيروقراطي.

تدريب مؤسس المشروع على الإدارة الشخصية للموارد والوقت.

تحليل المخاطر الإدارية قبل أن تصبح أزمات مالية أو قانونية.

تقديم تغذية راجعة مستمرة للقرارات اليومية بأسلوب تشاركي وغير وصائي.

هذه الخبرة الميدانية تمنح رائد الأعمال وعيًا تطبيقيًا لا يتعلمه من ورشة عمل أو دورة قصيرة.

 

رابعًا: أثر التعليم الإداري الواقعي على مستقبل المشاريع

عندما يُتقن رائد الأعمال أصول الإدارة الواقعية، تتغير ملامح مشروعه جذريًا:

يصبح القرار أكثر اتزانًا وأقل اندفاعًا.

تتحول فرق العمل من مجموعات تنفيذية إلى شركاء في النمو.

يُنظر للمنافسين باحترام استراتيجي لا توتر عشوائي.

تتحول الأزمات إلى فرص تعلم وتوسعة.

والأهم: يصبح المشروع قابلاً للاستمرار وليس فقط للإعجاب.

 

الحماس لا يعوّض غياب المنهجية

الإبداع الريادي هو المحرك، لكن الإدارة الواقعية هي المقود.

ولذلك، فإن تعليم الإدارة بروح واقعية وميدانية، يصبح شرطًا لبقاء المشاريع الناشئة في السوق، لا مجرد إضافة تجميلية.

ففي عالم يزداد تعقيدًا، لا يكفي أن تمتلك فكرة عظيمة… بل يجب أن تعرف كيف تديرها، وتنقذها، وتنمّيها بوعي إداري ناضج ومتجدد.

وهنا، تبرز الاستشارات الإدارية كجسر عملي بين الفكرة والنجاح، بين الطموح والاحتراف.