التجارب القديمة قد تمنعك من رؤية حلول مبتكرة
في عالم الإدارة والأعمال، تُعد الخبرة رصيداً ثميناً، ومصدر قوة يُعوَّل عليه في اتخاذ القرار والتعامل مع المواقف المعقدة. غير أن هذا الرصيد، حين يُترك دون وعي نقدي أو تحديث مستمر، يمكن أن يتحول من نقطة قوة إلى فخ عقلي يُقيد التفكير ويمنع رؤية إمكانيات جديدة.
في ميدان الاستشارات الإدارية، كثيراً ما نواجه قادة محترفين، ذوي تاريخ طويل من الإنجازات، يقفون – دون قصد – حجر عثرة أمام التغيير، لا لأنهم يفتقرون للكفاءة، بل لأنهم أسرى لتجارب ناجحة سابقة. هنا، يقع ما نسميه: “فخ الخبرة“.
أولًا: كيف تتحول الخبرة إلى فخ؟
تبدأ المسألة بنوايا حسنة.
حين يواجه القائد موقفًا جديدًا، يستدعي من ذاكرته حالات مشابهة، ويُسقط ما نجح معه في الماضي على الحاضر.
لكن المشكلة تكمن في أن:
- البيئة تغيّرت، والواقع الجديد لا يشبه الماضي.
- الأدوات تطورت، وما كان مقبولًا بالأمس أصبح مكررًا اليوم.
- الفِرَق اختلفت، ونمط التفاعل لم يعد يُدار بنفس الآليات.
بذلك، تتحول التجربة السابقة إلى مرآة مشوشة، تعيق التفكير النقي، وتُقصي الاحتمالات المبتكرة.
ثانيًا: أمثلة شائعة من فخ الخبرة في الواقع الإداري
- مدير يرفض نموذج العمل الرقمي لأنه “جرّب الأتمتة في 2015 ولم تنجح”، متجاهلًا الفارق في التقنية والبنية.
- مؤسس شركة ناشئة يصرّ على نمط التسويق التقليدي لأنه خدمه في بداياته، رغم أن السوق بات يُدار بالتحليلات الدقيقة والتخصيص الذكي.
- قائد مشروع يرفض تفويض المهام لأنه اعتاد “أن يقوم بكل شيء بنفسه لضمان الجودة”، مما يرهقه ويكبح نمو الفريق.
كل هذه المواقف تُظهر كيف يمكن للخبرة أن تمنع التعلّم من جديد، أو حتى من الأصغر منك سناً أو تجربة.
ثالثًا: كيف تعالج الاستشارات الإدارية فخ الخبرة؟
دور المستشار الإداري ليس أن يُلغي خبرات العميل، بل أن يعيد ترتيب علاقتها بالواقع. ومنهجيات الاستشارات المحترفة تتضمن:
- تفكيك القرارات وفق المعطيات لا الذكريات
بدلاً من “جرّبتها من قبل”، يُسأل القائد:
ما الجديد في هذه الحالة؟ ما الذي تغير في السوق؟ من اللاعبون المختلفون؟
- تصميم مختبرات قرارات مصغّرة (Pilot Thinking)
لتجريب الفكرة الجديدة على نطاق صغير دون تهديد شامل.
هذه الطريقة تُعطي مساحة للأمان، وتُعيد بناء الثقة في الابتكار. - تحليل التحيزات اللاواعية (Cognitive Bias Mapping)
وهي أدوات تشخيص ذكية تُظهر كيف تؤثر التجارب السابقة على اتخاذ القرار دون وعي. - إدخال أصوات مختلفة إلى طاولة القرار
من خلال إشراك عناصر شابة، أو فرق متعددة الخلفيات، مما يُحدّ من هيمنة زاوية واحدة في التفكير.
رابعًا: خطوات عملية لتحرير نفسك من فخ الخبرة
- اجعل من خبرتك مرجعًا، لا مرآةً مطلقة: استعن بها، لكن لا تُلزم الواقع الجديد بأن يشبهها.
- اخلق مساحة لـ “لم أفكّر بها من قبل” في كل نقاش.
- واجه نفسك بالسؤال الأهم: ماذا لو كانت تجربتي السابقة تقيّدني الآن؟
- استثمر في التعلّم المستمر والتفكير التصميمي (Design Thinking) كأداة لتجديد زاوية النظر.
خامسًا: متى تكون الخبرة نعمة… ومتى تصبح عبئاً؟
الخبرة نعمة عندما تُستخدم كـ مصدر إدراك استراتيجي، وليس كأداة لتبرير الجمود.
وهي عبء حين تتحول إلى سلطة فوق النقد، ترفض السؤال، وتهاب الجديد، وتختزل الواقع في الماضي.
من خبرات الاستشارات الإدارية، أكثر الشركات التي تحقق قفزات نوعية هي تلك التي:
- تحترم خبراتها دون أن تتقدّسها.
- تعترف بأن النجاح في الماضي لا يضمن الصواب في المستقبل.
- تُوازن بين الحكمة والتجديد باستمرار.
الخبرة بلا وعي نقدي هي استراحة لا انطلاقة
لا أحد ينكر قيمة التجربة، ولكن:
“ما يُشبه الأمس لا يُشبه الغد، وما نجح سابقًا قد يُقيد اليوم”.
في بيئة تتغير بسرعة الضوء، لا تنجُ الشركات ولا القادة إلا إن كانوا على استعداد لمساءلة ذواتهم، وتحديث خبراتهم، واستقبال الأفكار الجديدة بذهنية فضول لا مقاومة.
فالإبداع لا ينشأ في ظل القيود الذهنية… بل حين تتعلّم أن ترى الأمور كما لو أنك تراها لأول مرة، رغم كل ما عرفت.