قد يبدو للوهلة الأولى أن الإبداع نتاج عقل الإنسان وحده، لكن الواقع التنظيمي يروي قصة مختلفة. فالأفكار التي تتولد في بيئة العمل لا تتأثر فقط بالثقافة والقيادة، بل أيضاً بما يمكن تسميته بـ “البنية التحتية للإبداع” — أي الأدوات، والمكاتب، والمنصات التقنية التي يتعامل معها الموظفون يومياً. هنا تنشأ ظاهرة “التبعية الإبداعية الصامتة”، حيث تتحكم الأدوات في طريقة التفكير دون أن نشعر، وتوجّه مسار الأفكار بقدر ما تنظم سير العمل.
كيف تتسلل هذه التبعية إلى بيئة العمل؟
في عالم يزداد اعتماداً على التطبيقات والأنظمة الرقمية، بدأنا نفكر ضمن ما تسمح به الأدوات لا ما تتيحه عقولنا.
- الموظف الذي يعمل على نماذج جاهزة في برامج إدارة المشاريع يبدأ لاشعورياً بتكرار الأنماط نفسها دون مساءلة.
- أدوات العروض التقديمية تُغري بتصميم الفكرة في شكل شرائح قبل نضجها كمفهوم فكري.
- حتى برامج المراسلة الفورية، بضيق مساحتها وسرعة إيقاعها، تدفع الموظفين إلى اختزال النقاشات بدلاً من تعميقها.
هذه المظاهر تخلق بيئة تؤطر التفكير داخل حدود “قابلية التنفيذ” التقني بدلاً من حرية التخيل والبحث.
منظور الاستشارات الإدارية
من خلال خبرات الاستشارات الإدارية، يتضح أن أغلب المؤسسات لا تعاني من نقص في الأدوات، بل من تضخمها على حساب العقل البشري. فبدلاً من أن تكون التقنية محفزاً للإبداع، تتحول أحياناً إلى حاجز غير مرئي يحصر التفكير في قوالب مكررة.
ولهذا، حين نقوم بتشخيص بيئة العمل، لا نكتفي بتقييم الثقافة التنظيمية، بل نحلل أيضاً “خريطة الأدوات” التي يستخدمها الموظفون، لأننا نعلم أن الوسيلة تصنع جزءاً من الفكرة.
كيف يمكن كسر التبعية الصامتة؟
- فترات تفكير خارج الشاشة
تشجيع الاجتماعات أو جلسات العصف الذهني دون أجهزة رقمية، لإعادة تنشيط التفكير الحر قبل ترجمة الفكرة للأدوات. - مراجعة الأدوات دورياً
كما نراجع الأداء المالي، يجب مراجعة الأدوات الرقمية كل فترة للتأكد من أنها تخدم الهدف ولا تقيده. - توازن بين الأتمتة والإبداع
تبسيط الإجراءات عبر الأتمتة لا يعني تسليم التفكير للتقنية. على المؤسسات تصميم أنظمة تسمح بالتخصيص والمرونة في القرار. - تدريب الموظفين على “الوعي بالأداة”
جعلهم يدركون أن كل أداة تحمل فلسفة ضمنية في طريقة التفكير. هذه الخطوة وحدها كفيلة بتحريرهم من قيودها.
حين تصبح الأدوات شريكاً في التفكير
الاستشارات الإدارية ترى أن الذكاء المؤسسي لا يتحقق بكثرة البرامج، بل بقدرة المؤسسة على مواءمة أدواتها مع طبيعة عملها الإبداعي. فالأداة ليست عدو الإبداع إذا وُظفت كوسيلة مفتوحة لا كقالب مغلق.
الخلاصة
التقنية ليست محايدة. البيئة الرقمية التي تعمل فيها الفرق تصوغ لغتهم الفكرية من حيث لا يشعرون. المؤسسات الذكية تدرك أن إدارة الإبداع لا تتعلق فقط بالتحفيز أو التدريب، بل أيضاً بـ تحرير العقول من هيمنة الأدوات.
فالأفكار العظيمة لا تُولد من البرامج، بل من العقول التي تعرف متى تستخدمها، ومتى تتركها جانباً لتفكر بحرية.
